مع بداية فصل الشتاء دب الذعر والفزع من جديد في قلوب مواطني بلدان منطقة آسيا الوسطى، فما حدث لهم شتاء العام الماضي ليس ببعيد، إذ شهدت بلدان المنطقة أزمة طاقة غير مسبوقة، تمثلت في نقص حاد في الغاز وانعدام الأمن الكهربائي.
ورغم أن دول المنطقة سعت للتغلب على تلك المشكلة، وتحسين كفاءة شبكات الطاقة لديها عبر سلسلة من الإجراءات لتقليل نقاط الضعف وتجنب تكرار ما حدث، إلا أن المواطنين لا يزال ينتابهم الخوف والقلق من تكرار تجربة شتاء 2022 بما تحمله معها من معاناة نتيجة انقطاع التدفئة والكهرباء وتأثيرها السلبي على الحياة الاقتصادية عامة وحياتهم اليومية خاصة.
الغريب في هذا النوع من المشكلات التي تواجه سكان آسيا الوسطى أنها تحدث رغم أن المنطقة غنية بمواردها الطبيعية ومصدر رئيس للغاز، وقد دفعت أزمة الكهرباء بمعظم دولها إلى إعادة النظر في مستقبل صادراتها من الغاز الطبيعي خاصة مع تصاعد الطلب المحلي.
ومن بين أكثر دول المنطقة عرضة لمواجهة ضغوط الشتاء هذا العام أوزبكستان وقيرغيزستان وإلى حد ما، كازاخستان، وإذ تعمل أوزبكستان وقيرغيزستان على إيجاد حلول عبر طلب المساعدة الخارجية من روسيا والصين، إلا أنه حتى في حال الحصول على دعم موسكو فإن ذلك لن يحل الأزمة جذريا.تواجه أوزبكستان نقصا في الغاز مع زيادة الطلب المحلي، وقد وجدت ضالتها في اتفاق وقعته في يونيو الماضي مع روسيا لتوريد الغاز الروسي إليها عبر كازاخستان بدءا من أكتوبر الماضي، وبموجب الاتفاق ستحصل أوزبكستان على 2.8 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي من شركة غازبروم الروسية بما يقدر بتسعة ملايين متر مكعب يوميا.
مع ذلك لا يمثل الاتفاق حلا للمشكلة، إذ إن أوزبكستان في حاجة إلى شراء ستة مليارات متر مكعب من الغاز الروسي لحل أزمة الطاقة المحلية لديها.يقول لـ"الاقتصادية"، دانيال سيرجي الخبير في مجال الطاقة: "أزمة الطاقة في دولة مثل أوزبكستان لا تعود إلى نقص الموارد بقدر ما تعود إلى التزامات دولية ألزمت بها الحكومة نفسها دون أن يكون لديها القدرة الكاملة على القيام بها".
ويضيف: "بصرف النظر عن الطلب المحلي المتزايد، فإن أوزبكستان لديها صفقة غاز مع الصين، تلزمها بتسليم ما قدره عشرة مليارات متر مكعب من الغاز إلى الصين سنويا، ومنذ توقيع الاتفاقية فإنها تكافح من أجل الالتزام بتعهداتها بسبب موارد الطاقة غير المستقرة لديها، وزاد الاتفاق من تحديات الأزمة الراهنة، ولذلك فإن الغاز الإضافي الذي سيتم الحصول عليه من روسيا لا يمكن أن يحل الأزمة الداخلية في أوزبكستان إلا مؤقتا، طالما كان على أوزبكستان الوفاء بالتزاماتها بشأن تصدير الغاز إلى الصين".تنبع منطقية هذا التحليل من حالة الارتباك التي تعانينها أوزبكستان بشأن صادرتها من الغاز إلى الصين منذ بداية العام الحالي، ففي الربع الأول من عام 2023، علقت صادراتها لسبب نقص الغاز المحلي، واستمر ذلك نحو أربعة أشهر، لكنها عاودت التصدير في أبريل وبكميات أكبر لتعويض الكميات التي لم تسلم سابقا، لكن ذلك لم يمنع كبار المسؤولين عن قطاع الغاز في البلاد من الإعلان أنهم يفكرون في التخلي بالكامل عن تصدير الغاز للصين بحلول عام 2026 نتيجة الطلب المحلي المتزايد، وعدم كفاية الإنتاج المحلي لتلبية كل من الصادرات والاستهلاك المحلي.لكن تلك التصريحات قد تكون وليدة اللحظة الراهنة ولإرضاء حالة التذمر والتململ الشعبي مع حلول الشتاء، فإلغاء الاتفاقية مع الصين يضعف علاقاتها الاقتصادية مع بكين، وسينجم عن ذلك خسائر اقتصادية ضخمة على أوزبكستان، والأكثر خطورة أنه يقوض مصداقيتها كدولة مصدرة للغاز، فقد زودت أوزبكستان وكازاخستان الصين بنحو 11 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي عام 2021 وهو ما يمثل خمس واردات الصين من الغاز.
لكن المشكلة لا تقف عند هذا الحد، فإنتاج الغاز في أوزبكستان دخل مرحلة التراجع النهائي، وعمر الاحتياطي المتاح لا يتجاوز 18 عاما، ولا يوجد احتمال لاكتشافات جديدة ذات أهمية، في الوقت ذاته يتوقع أن يزداد الاستهلاك المحلي بنسبة 40 في المائة بنهاية هذا العقد، خاصة مع تطوير البلاد لعدد من الصناعات كثيفة الاستخدام للغاز، إضافة بالطبع إلى النمو السكاني السريع، كما أن البنية التحتية متداعية وتحديدا في مجال الإسكان، حيث إن المنازل قديمة ورديئة في مجال العزل الحراري، إضافة إلى أن سياسة الدعم الحكومي ونقص الاستثمارات في القطاع يفاقم المشكلة.المشهد في كازاخستان لا يبدو بعيدا عن نظيره في أوزبكستان رغم احتياطاتها الهائلة من الغاز، إذ تحتل المرتبة الـ19 في العالم من حيث احتياطات الغاز، لكنها تكافح للحفاظ على فائض من الغاز الطبيعي خاصة مع تراجع قدرة البلاد في معالجة الغاز في وقت يتنامى فيه الطلب المحلي بسرعة، وتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن 41 في المائة من السكان لا يستطيعون الوصول إلى الغاز ويستخدمون الفحم في التدفئة.الدكتورة ماريا بوتينج أستاذة الدراسات الآسيوية في جامعة أدنبرة تشير إلى أن كازاخستان في وضع أفضل نسبيا من أوزبكستان، إذ إن كلتا الدولتين متعاقدة على أن تسلم كل واحدة منهما الصين عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنويا، ورغم أن أيا منهما لم يقترب من تسليم الكمية المتعاقد عليها بالكامل في أي وقت، فإن عقد كازاخستان مع الصين ينتهي هذا الشهر، ما يجعل البلاد في وضع أفضل نسبيا.لكنها تقول لـ"الاقتصادية": "لدى كازاخستان احتياطات كبيرة من الهيدروكربونات، ولكن البنية التحتية سيئة، والمشكلة لا تكمن في نقص الغاز، إنما يكمن التحدي في هيكل سوق الغاز والقيود الصارمة على الأسعار بالنسبة للمستهلكين، ومعالجة الغاز المحلي غير مربحة بسبب التعريفات الصارمة، ومحطة معالجة الغاز الوحيدة في البلاد غير كافية، كما أن هناك اتهامات واسعة بتفشي الفساد بشكل كبير في قطاع الغاز".من هنا يرى البعض أن كازاخستان التي تصدر 1.4 مليون برميل من النفط يوميا، وأنتجت ما يقارب من 28 مليار متر مكعب من الغاز، بينما لا يتجاوز استهلاكها من الغاز التجاري 19.3 مليار متر مكعب، لا تعاني مشكلة حقيقية تؤدي إلى معاناة السكان نقص إمدادات الطاقة في فصل الشتاء القارس، وإنما في حاجة ماسة إلى إعادة ترتيب أوراقها الداخلية وإصلاح قطاع الطاقة عبر توسيع قدرات محطات الغاز ومصافي الطاقة المحلية، إضافة إلى إصلاح هيكل الأسعار المحلية لترشيد الاستهلاك.بينما قيرغيزستان دولة أخرى من دول وسط آسيا تواجه أخطارا هائلة في مجال الطاقة، مع احتمال كبير أن تتفاقم مشكلة الكهرباء لديها هذا الشتاء، خاصة أن إنتاجها من الطاقة الكهرومائية كانت دائما أقل من تلبية الطلب المحلي، وتزداد التحديات هذا العام أكثر من أي وقت مضى مع تقلص الإنتاج في محطة الطاقة الكهرومائية من خزان توكتوجول الذي يولد أغلب الكهرباء في البلاد.المشكلة الرئيسة بالطبع تكمن في أن إنتاج البلاد من الطاقة يراوح بين 14 و15 مليار كيلوواط/ساعة سنويا، بينما يصل الحـد الأدنى للاستهلاك الوطني من الكهرباء 17 مليار كيلوواط/ساعة، ومع استمرار تراجع الإنتاج فإن أغلب التوقعات تشير إلى أن البلاد لن يكون أمامها هذا العام من سبيل لحل معضلة الكهرباء إلا تقنين استخدام الكهرباء.ورغم استيراد قيرغيزستان الكهرباء من الدول المجاورة إلا أن ذلك لم يكف، ما اضطر الرئيس صدر جباروف إلى إعلان حالة الطوارئ في قطاع الطاقة، التي ستستمر لمدة تصل إلى ثلاثة أعوام من عام 2023 إلى 2026، ما يكشف عن عمق المشكلة وتجذرها.تحديدا هذا الوضع الصعب لقطاع الطاقة في قيرغيزستان هو ما دفعها من وجهة نظر ديرموت أجاري أستاذ اقتصادات الطاقة في جامعة كامبريدج إلى اللجوء إلى الصين لمساعدتها للخروج من مأزقها الراهن.ويقول لـ"الاقتصادية": إن "سبب اللجوء إلى الصين هو البحث عن استثمارات ومساعدات لبناء البنية التحتية في مجال الكهرباء في البلاد، ووقع الطرفان مذكرة لبناء مشروع محطة للطاقة الكهرومائية بنحو ثلاثة مليارات دولار أمريكي، حيث يعد هذا المشروع الأكبر من نوعه في تاريخ البلاد وسينتهي تشييده عام 2030".ويضيف: "هذا المشروع رغم أهميته لربما يساعد البلاد على حل مشكلتها في الأمد الطويل، إلا أنها في حاجة إلى مزيد من الإجراءات والتدابير العاجلة لحل المشكلة الراهنة".
هذا الوضع المتشابه لقصور بلدان آسيا الوسطى عن تلبية احتياجات مواطنية من الكهرباء، وعجز شبكة الطاقة لديها في توفير الاحتياجات المطلوبة للتنمية الاقتصادية والنمو المتسارع في أعداد السكان كان مدخلا ذهبيا لتتقدم روسيا في نوفمبر من العام الماضي باقتراح يعرف بـ"اتحاد ثلاثي للغاز" يضم كلا من روسيا وكازاخستان وأوزبكستان لتسهيل شحنات الغاز الروسي إلى اقتصاد آسيا الوسطى وكذلك إلى المشترين الخارجيين وتحديدا الصين.
الباحث في معهد الطاقة أندروا نيل عد التحرك الروسي خطوة ذكية ترمي إلى ضرب عصفورين بحجر واحد على حد قوله.ويؤكد أنه "بتلك الخطوة تستطيع روسيا أن توفر منفذا بديلا لقاعدة العملاء الأوروبيين الذي أوقفوا استيراد الطاقة سواء الغاز أو البترول من روسيا الاتحادية في إطار العقوبات المفروضة عليها بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا، أما الجانب الثاني فإنها تجعل بلدان آسيا الوسطى، بل والصين أكثر ارتباطا بها في هذا المجال الحيوي، ما يساعدها على تعزيز نفوذها في بلدان المنطقة، ولذلك يعد توقيع البلدان الثلاثة في يناير الماضي على خرائط طريق لدفع التعاون في صناعة الغاز مع شركة غازبروم الروسية والاتفاق على دراسة الإمكانات الفنية لتوريد الغاز الروسي إلى المنطقة وخارجها، بما في ذلك توريد ما يصل إلى عشرة مليارات متر مكعب من الغاز الروسي سنويا من بينها ما يراوح بين 4 وستة مليارات متر مكعب سيذهب إلى الصين، خطوة مهمة في طريق التعاون الاستراتيجي بين تلك الأطراف في واحدة من أكثر المجالات حيوية واحتياجا في آسيا الوسطى والصين".مع هذا فإن عددا من الخبراء يعتقدون أن القضية أكثر تعقيدا من ذلك حتى ولو أفلحت روسيا ولو إلى حين في توفير احتياجات بلدان المنطقة من الطاقة، فالمشكلة الجوهرية أن شبكات الطاقة في آسيا الوسطى قديمة وتعود إلى حقبة الاتحاد السوفيتي، وفي بعض بلدان المنطقة تبلغ الخسائر في الكهرباء 40 في المائة نتيجة تهالك شبكات الطاقة، إذ لم تجدد منذ أعوام، ومع تزايد ساعات انقطاع التيار الكهربائي لم يكن أمام السكان في المناطق الريفية في طاجكستان على سبيل المثال غير اللجوء إلى الفحم، لكن نتيجة التضخم وارتفاع أسعار الفحم بنحو 20 في المائة، فإن ذلك بات عامل ضغط على مستويات معيشة المواطنين.
ويعتقد الدكتور ديرمت لويس أستاذ التنمية الاقتصادية في جامعة جلاسكو أن الحل الأمثل لمشكلة الطاقة في بلدان آسيا يتطلب العمل على أكثر من جبهة في آن معا.ويقول لـ"الاقتصادية": إن "هناك احتياجات مالية ضخمة لتحديث البنية التحتية لبلدان المنطقة تراوح بين 136 مليار دولار و339 مليار دولار بحلول عام 2030، ويمكن تعزيز أمن الطاقة في آسيا الوسطى من خلال البنية التحتية العابرة للحدود الذي يربط دول المنطقة بمستويات جهد مختلفة ويولد الطاقة إقليميا، ويوجد بالفعل أرضية لذلك فقيرغيزستان وأوزبكستان وكازاخستان تتحد معا من خلال شبكة كهرباء واحدة موروثة من الاتحاد السوفيتي، ويجب أن يترافق ذلك مع تعظيم الاستفادة من الكميات الضخمة من الوقود الأحفوري في المنطقة، فمنظمة التعاون الأمني في أوروبا تقدر إجمالي كمية النفط في المنطقة بـ31.2 مليار برميل، وكمية الغاز الطبيعي بـ23.4 تريليون متر مكعب، لكن الاكتفاء بالوقود الأحفوري للتغلب على مشكلة الطاقة لن يمثل حلا جذريا، إذ لا بد من تعزيز استخدام الطاقة المتجددة".
في الوقت الحالي يشكل الوقود الأحفوري 95 في المائة من إجمالي إمدادات الطاقة لدول آسيا الوسطى "كازاخستان وقيرغيزستان وطاجكستان وتركمانستان وأوزبكستان". ووفقا للأمم المتحدة فإن تعزيز مرونة الطاقة في بلدان المنطقة لمنع انقطاع التيار الكهربائي وضمان إمدادات موثوقة سيتطلب استثمارات بـ1.407 تريليون دولار بين 2020 و2050، وفي الوقت الراهن فإن تقديرات البنك الدولي تشير إلى أن هناك حاجة لاستثمارات عاجلة لا تقل عن 20 مليار دولار لتوسيع إمدادات الطاقة المتجددة في آسيا الوسطى وتحديث شبكات الطاقة الوطنية في غضون الأعوام الخمسة إلى العشرة المقبلة.ويرجح أوين جونس الخبير النفطي أن يكون لدى أوزبكستان بما تتمتع به من إمكانات هائلة لتطوير منشآت الرياح والطاقة الشمسية على نطاق واسع بفضل الظروف الطبيعية المثالية، الريادة في قيادة عملية التحول في بلدان المنطقة إلى مزيد من استخدام الطاقة المتجددة لتلبية الاحتياجات المحلية من الكهرباء.
ويؤكد أنه "عندما يتعلق الأمر بالطاقة الشمسية فإن البلاد تتمتع بإمكانات طبيعية أكبر في سطوع الشمس، مقارنة بدول أوروبية مثل إسبانيا وإيطاليا، ومن ثم يمكن الاعتماد على الطاقة الشمسية بشكل واسع، مع هذا فالطاقة المتجددة لا تمثل سوى 8 في المائة فقط من مزيج الطاقة المستخدمة في البلاد، وأغلبها يأتي من محطات الطاقة الكهرومائية التي تعود للحقبة السوفيتية، كما أن هناك مجالا محدودا لتطوير الطاقة المائية نظرا لارتفاع الطلب على المياه في القطاع الزراعي".
ويضيف: "لكن كي تنجح أوزبكستان في إطلاق إمكاناتها في مجال الطاقة فإنها في حاجة لتحرير اقتصادها وأيضا تحرير سوق الطاقة خاصة أنها تتمتع بالاستقرار النسبي وتعد واجهة جذابة للاستثمارات الدولية".من الواضح حتى الآن أن بلدان وسط آسيا رغم إمكاناتها الضخمة في مجال الطاقة سواء بتوفر الوقود الأحفوري أو الطاقة المتجددة تواجه أزمة في مجال إنتاج الكهرباء، وربما يتطلب الخلاص من هذا الوضع طرح خريطة طريق جماعية تفتح الطريق أمام المستثمرين والقطاع الخاص بما يسمح بالاستفادة بشكل متزايد من الإمكانات الهائلة التي تتمتع بها بلدان المنطقة.
コメント