عندما وقف لوكا دي ميو رئيس رابطة مصنعي السيارات الأوروبية والمدير التنفيذي لمجموعة رينو في جلسة استماع أمام قادة وزعماء الاتحاد الأوروبي
قائلا "إن صناعة السيارات الأوروبية تقف عند نقطة تحول، التحديات ضخمة، وكذلك الضغط على الصناعة"، لم يكتف بالاستغاثة، وطلب المساعدة فحسب، بل كان يبعث بصرخة تحذير للقادة الأوروبيين بأن واحدة من الصناعات الاستراتيجية والحيوية في القارة التي أسهمت في وضع دولها في مصاف الدول المتقدمة تفقد مكانتها التاريخية "مصنعو السيارات الأوروبيون يواجهون تحديا غير متكافئ للغاية.. لم نعد نقود السباق التكنولوجي". وتآكل قدرة أوروبا التنافسية لم يكن في صناعة السيارات فقط، إذ لوحظت اضطرابات كبيرة في سوق الصناعات الأخرى، فعلى سبيل المثال خسر المصنعون في الاتحاد الأوروبي أكثر من 90 في المائة من حصتهم في سوق الهواتف الذكية خلال الأعوام الستة الماضية. كما أن اللاعبين الأوروبيين الرئيسين في صناعة الكاميرات خسروا حصة مماثلة في السوق في الأعوام التسعة الماضية، وعديد من المؤشرات يكشف أن ظروف الإنتاج الصناعي في السوق الأوروبية أصبحت أقل قدرة على المنافسة أمام المنتجات القادمة من الولايات المتحدة والصين وعدد من الاقتصادات الناشئة، وقد بات هذا الأمر مقلقا ليس فقط للقادة الصناعيين، إنما لقادة وزعماء القارة والمسؤولين أولا وأخيرا عن مستقبلها في عالم شديد التنافسية. ولا ينفي الدكتور إم.دي. أوليفر أستاذ التشريعات الصناعية في جامعة لندن تراجع مكانة الصناعات الأوروبية عالميا، ويعتبر الأمر شديد الوضوح والخطورة في صناعة السيارات، لكنه يرجع ذلك إلى السلوك التشريعي الأوروبي، على حد قوله ويقول في تصريحات لـ"الاقتصادية"، "التحدي الرئيس الذي يواجه صناعة السيارات الأوروبية في الأعوام الماضية يعود إلى الحجم الهائل من التشريعات الجديدة، التي تركز على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من عوادم السيارات وكذلك دمج معايير الاستدامة مع المعايير الواجبة في صناعة السيارات". وأضاف "بالتأكيد تلك التشريعات مفيدة وتصب في مصلحة المستهلك في نهاية المطاف، لكن علينا أن نتذكر أنها تزيد من التكلفة المالية للعملية الإنتاجية، كما أن شركات السيارات الأوروبية تستثمر كثيرا لتطبيق تلك التشريعات، لكن في الوقت ذاته فإن المنافسين الآخرين لا يلتزمون بتلك التشريعات ومن ثم التكلفة الإنتاجية لديهم أقل". وحول سبل الحل المتاحة أمام صناعة السيارات الأوروبية يرى الدكتور إم.دي. أوليفر أنه "أولا يجب النظر في جدوى بعض تلك التشريعات، فبعضها يضيف مزيدا من التعقيد الصناعي، ويرفع من حالة عدم اليقين في اتخاذ القرارات الاستثمارية من قبل المسؤولين في الصناعة، والمشكلة الحقيقية أن حزمة واسعة من تلك التشريعات لم تجلب الفوائد البيئية التي تدعيها، وأثرت سلبا في الصناعة، لهذا يجب أن تكون التشريعات الأوروبية متماسكة وقابلة للتحقيق وتنافسية، وأن تضغط أوروبا لتضفي عليها صبغة عالمية، بدون تلك الصبغة العالمية فإن صناعة السيارات الأوروبية ستتحمل تكلفة مالية في الإنتاج أكثر من الآخرين، ما سيؤدي ليس فقط إلى فقدانها الأسواق العالمية بل والأسواق المحلية أيضا". ولا شك أن التشريعات الأوروبية في مجال صناعة السيارات هي ما جعلت أوروبا تتصدر دول العالم في مجال الإنتاج النظيف وانخفاض كميات المياه والطاقة المستخدمة في تصنيع المركبات، وانخفاض كميات ثاني أكسيد الكربون والنفايات في هذه العملية، لكن هذا الجانب على أهميته لا يجعل القادة الأوروبيين يغفلون النظر عن أهمية الحفاظ على الصناعة ودعمها في ظل الدور الاقتصادي المهم الذي تقوم به في الاقتصاد الأوروبي، فوفقا لتقرير رابطة مصنعي السيارات الأوروبية، يمثل حجم التداول الناتج عن قطاع السيارات 7 في المائة من إجمالي الناتج المحلي للاتحاد الأوروبي. ويعمل في الصناعة 13 مليون أوروبي بشكل مباشر وغير مباشر أي ما يمثل 7 في المائة من إجمالي الوظائف في المنطقة، ونحو 11.5 في المائة من وظائف التصنيع في الاتحاد الأوروبي أي ما يعادل 3.4 مليون وظيفة توجد في قطاع السيارات، بينما تصنع أوروبا حاليا 13.1 مليون مركبة، من خلال 164 مصنعا لتجميع وإنتاج المركبات في جميع أنحاء أوروبا، وقد نجحت صناعة السيارات الأوروبية في توليد فائض تجاري يقدر بـ102 مليار يورو سنويا تقريبا. وتسهم السيارات بـ374.6 مليار يورو في حصيلة الضرائب الأوروبية، في الوقت الذي يعد فيه القطاع المستثمر الأول في الاتحاد الأوروبي في مجال البحث والتطوير حيث تتحمل الصناعة 31 في المائة من إجمالي الإنفاق، وقد بلغت استثمارات الاتحاد الأوروبي في مجال البحث والتطوير في قطاع السيارات 59.1 مليار يورو سنويا، وتتصدر أوروبا حاليا العالم في براءات الاختراع الخاصة بالمركبات ذاتية القيادة حيث تمثل 33.3 في المائة من إجمالي براءات الاختراع. ومنطقيا، أن يكون قطاع صناعي أوروبي لديه هذه المساهمة الاقتصادية الضخمة محل اهتمام القادة والزعماء الأوروبيين، وأن يصيبهم قلق حقيقي من التحديات التي يمكن أن تؤدي على المدى الطويل إلى إصابة القطاع بوعكة اقتصادية، فهذا القلق يدفع ببعض الباحثين إلى عدم تجاهل خطورة تراجع القدرة التنافسية الأوروبية في مجال صناعة السيارات، لكنهم يعتبرون الخطر الحقيقي ينبع من شقين أحدهما يرتبط بالتحولات المجتمعية والآخر يتعلق بالصناعة ذاتها. المهندس جرانت تشالك رئيس وحدة الأبحاث في اتحاد منتجي السيارات في المملكة المتحدة يقول لـ"الاقتصادية"، "هناك تغير في المجتمع وفي طبيعة العلاقة بين المستهلك الأوروبي والسيارات، فعلى سبيل المثال متوسط رحلة السيارة في المملكة المتحدة يبلغ ثمانية أميال فقط في اليوم، وعديد من الأشخاص يبحثون عن بدائل لاستخدامهم اليومي للسيارة، وفي العقد المقبل يمكن أن نشهد انخفاضا في ملكية السيارات، وبدلا من ذلك نشهد ارتفاعا في عدد الأشخاص الذين يستأجرون السيارات عندما يحتاجون إلى القيام برحلات طويلة بالسيارة، ومع تزايد عدد الأشخاص الذين يعملون في المنزل ويتجنبون التنقل اليومي، ويطلبون تسوقهم الأسبوعي عبر الإنترنت، فإن الحاجة إلى الوصول المنتظم إلى السيارة آخذة في الانخفاض". ويستدرك قائلا "في الأعوام الأخيرة كان هناك توجه حقيقي نحو السيارات الكهربائية، وهذا أمر جيد أن تتجه الصناعة إلى مزيد من الطرق الإنتاجية المراعية للبيئة، لكن هذا يعني أن الطلب على الميكانيكا التقليدية بات أقل، ومع نمو حصة السيارات الكهربائية، فإن الأمر لن يقتصر على تدريب المهندسين وتحسين مهاراتهم فحسب، بل أيضا علينا البحث عن سبل لجعل مكونات صناعة السيارات أقل تكلفة، ومكونات إنتاج السيارات الكهربائية الأوروبية لا تزال أكثر تكلفة من منافسيها، ما يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الإنتاج، وهذا تحد خطير للصناعة في ظل المنافسة والركود الاقتصادي العالمي". وجهة النظر تلك تلقى تأييدا من ماريا ستيف المسؤولة عن قسم التطوير الصناعي في وحدة البحوث المستقبلية في جامعة كامبريدج، ويضيف لـ"الاقتصادية"، "مستقبل صناعة السيارات الأوروبية سيعتمد على مدى جودة وسرعة استجابة الصناعة لما تواجه من تحديات وكيف يمكن لأصحاب المصلحة الأوروبيين تشكيل الظروف اللازمة لتحقيق النجاح في المستقبل، فالديناميكية الجديدة في صناعة السيارات والتحول إلى السيارات الكهربائية يجعلان أوروبا في موقف معقد، خاصة في مواجهة الصين أكبر سوق للسيارات في العالم، فالديناميكية الجديدة أحدثت تغيرا جذريا في السوق". وفيما يتعلق بالفوز بحصة في هذه السوق، فالعام الماضي تجاوزت الصين ألمانيا في صادرات المركبات الخفيفة لأول مرة، وبلغت صادراتها ثلاثة ملايين مركبة، بينما لم تتجاوز ألمانيا 2.6 مليون، هذا التحول يدخل ضمن بيئة الاقتصاد الكلي المليئة بالتحديات في أوروبا، سواء تعلق الأمر بارتفاع أسعار الطاقة أو التضخم أو التوترات الجيوسياسية، وقد أثرت كل هذه العوامل بشكل كبير في صناعة السيارات الأوروبية وجعلت عملية التحول في هذا القطاع صعبة. ترى الأغلبية العظمى من الخبراء أن أوروبا لا تزال تمتلك القدرة على قيادة صناعة السيارات عالميا على الرغم من التحذيرات التي يطلقها قادة الصناعة من حين إلى آخر بخصوص الأوضاع التي يواجهونها، فقيمة العلامة التجارية لأكبر عشر شركات سيارات أوروبية وبشكل متحفظ تقدر بـ200 مليار يورو، وخمس من العلامات التجارية العشر الأكثر قيمة للسيارات على مستوى العالم أوروبية، مع هذا فإن التحدي الكبير الآن يكمن في الحفاظ على هذه الأصول والبناء عليها في مواجهة التغيير العميق والمتسارع، ويتطلب هذا رسم خريطة طريق أوروبية تعتمد في جوهرها على التحرك السريع لتعزيز المكتسبات ووقف التدهور في بعض جوانب الصناعة. من هذا المنطلق يشير تشارلز هولندن الرئيس السابق لقسم التسويق الدولي في شركة فوكسهول البريطانية إلى أن صناعة السيارات الأوروبية تسير في اتجاه مزيد من التركيز على القطاعات الراقية من الطلب على السيارات، وتلك النوعية مرتفعة السعر، في حين تهمل شريحة السيارات منخفضة السعر، وهذا قد يعني أن الصناعة ستواجه صعوبة في فترات الركود الاقتصادي العالمي. ولـ"الاقتصادية" يعلق قائلا "لمواجهة تحديات صناعة السيارات الأوروبية هناك حاجة ضرورية إلى التركيز على التطوير التكنولوجي وخفض الأسعار، فدراسة حديثة أجريت العام الماضي كشفت أن سعر السيارة هو عامل الشراء الأكثر أهمية بالنسبة إلى المستهلكين في جميع الأسواق، وفي مجال السيارات الكهربائية على وجه الخصوص، الصينيون نجحوا في تحويل ميزة التكلفة الخاصة به إلى ميزة تنافسية، فتكلفتهم أقل بنسبة تراوح بين 20 و30 في المائة مقارنة بأوروبا، ومن ثم خفض الأسعار يجب أن يكون الاستراتيجية الرئيسة للمصنعين الأوروبيين، ويمكن التغلب على فجوة التكاليف من خلال اعتماد دمج هيكلة تصميم المنتج، والدمج الرأسي لإنتاج البطاريات وتوسيع نطاق إنتاج المركبات الكهربائية وتحسين الإنتاجية". ويستدرك قائلا "كما أن الأوروبيين في حاجة إلى أن تتضمن استراتيجية تصنيع السيارات لديهم مزيدا من السرعة في عملية التطوير دون أن يعني ذلك التخلي عن معايير الجودة المميزة للسيارات الأوروبية، ففي أوروبا يتطلب الأمر نحو أربعة أعوام بين تطوير المفهوم النظري ووضعه محل التجربة، بينما لا تتجاوز تلك الفترة لدى المنافسين 21 شهرا، ما يجعلهم أكثر استجابة لاتجاهات السوق أسرع من الأوروبيين".
Comments