مع الحديث عن صفقة تبادل الأسرى الجزئية مع الاحتلال، تنبض قلوب الأسيرات الفلسطينيات انتظاراً للحظة التي يعانقن فيها الحرية. ماذا تعرفون عن أسيرات فلسطين؟ وكيف ينتهك الاستعمار الاستيطاني أجسادهن وأذهانهن؟

ينتهك الاستعمار الاستيطاني أجساد وأذهان النساء الفلسطينيات فعلاً ومجازاً، وذلك إنطلاقاً من أن ممارسات الاستعمار والاستيطان، وانتهاكاتهما للأرض والجسد الفلسطينيين، تشكل جزءاً من البنية الثابتة واليومية للاستعمار.
وتُعد هذه الممارسات شبه مخفية في الحياة اليومية، لكنها تنكشف حين تتكثف في حالة صدام أو حرب أو أي توتر سياسي، كما هي الحال اليوم في الحرب الجارية على قطاع غزة منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
ففي السياق الاستعماري في فلسطين، استُخدمت أجساد النساء كأسلحة في المناطق الاستعمارية ومناطق النزاع.
وعليه، فإن تحويل أجساد النساء إلى أسلحة ليس حدثاً هامشياً، بل قضية جوهرية تتحقق تحت ظروف استعمارية.
وهنا نحاول التركيز على أداة "الاعتقال" بصفتها أحد أهم الأدوات الاستعمارية تاريخياً، والتي تُستخدم لضبط المُستَعمرين والتحكم بأجسادهم، والنساء منهم على وجه التحديد (الأسيرات).
منذ بدء معركة "طوفان الأقصى"، تعيش الأسيرات الفلسطينيات تصعيداً وظروفاً غير مسبوقة. فقد أعادتنا الشهادات التي وصلت عن طريق المحامين ومؤسسات الأسرى، وأبرزها "نادي الأسير الفلسطيني" و"هيئة الأسرى والمحررين"، إلى السنوات الأولى للاعتقال، أي لأوائل سبعينيات القرن الماضي. فقد عاد تعذيب الأسيرات الجسدي إلى الواجهة، وسيطرت التهديدات بالاغتصاب والضرب والتفتيش العاري على أداء المحققين العسكريين.
وحرمت الأسيرات من الكانتينا (مكان شراء حاجياتهم النسائية)، ومن الفورة (مساحة مخصصة للمشي والتعرض للشمس والهواء)، وتم قطع المياه والكهرباء والاتصال والتواصل من خلال الهاتف العمومي، ومنعن من الزيارات ولقاء المحامين، وتعرضن للضرب والتنكيل ورش الغاز داخل الغرف.
كما سُجل ارتفاع ملحوظ في وتيرة الاعتقالات الخاصة بالفلسطينيات، حيث وصل العدد مؤخراً إلى 97 أسيرة من مختلف مناطق فلسطين المحتلة، والضفة الغربية، والأراضي المحتلة عام 1948 والقدس المحتلة (وهذا العدد لم تشهده السجون منذ الانتفاضة الثانية عام 2000)، واعتقل أغلبهن تحت ذريعة تهم "التحريض"، و"التماهي مع التنظيمات الإرهابية"، وتم تحويلهن إلى الاعتقال الإداري.
ويأتي ذلك في ظل تحوّل إدارة السجون لسيطرة الجيش الاسرائيلي بالشراكة مع إدارة مصلحة السجون "الشاباص"، إثر حالة الطوارىء التي تفرضها الحكومة الإسرائيلية على الفلسطينيين منذ 7 أكتوبر، ما يعطيها هامش حرية أوسع لقوننة أدوات الموت والاعتقال بكافة أشكالها.
في هذا السياق، يقول المحامي حسن عبادي، الناشط الحقوقي والثقافي المهتم بقضايا الأسيرات الفلسطينيات، والذي يلتقي بهن دورياً منذ عامين، يقول إنه وقد بثلاث أسيرات في 8 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أبرزهن الأسيرة لمى الفاخوري خاطر التي تم اعتقالها بتاريخ 26-1-2023 بعد اقتحام منزلها بهمجية في الضفة الغربية.
ووصف عبادي اللقاء بأنه "الأصعب منذ سنوات"، مضيفاً في حديث مع "الميادين الثقافية" أنه "حين اقتادوها لمعسكر كريات أربع هدّدها الضابط قائلاً: معي 20 جندي، بدنا نغتصبك مثل ما جماعتك اغتصبوا بناتنا"، وأضاف: "بدّي أعتقل أولادك وأحرقهم". هدّد الضابط خاطر كل الوقت "أنتم أسرى حرب وبطلعلنا نعمل فيكم شو بدنا". من ثم تم نقلها إلى معتقل عوفر، وكل الوقت ترهيب وانتقام، مقيّدة بقيود بلاستيكيّة قاسية، من دون مياه للشرب، وفجأة أزاح الغطاء عن وجهها وصوّرها بجوّاله، تجاوزاً وليس تحقيقاً، وتم توجيه أسئلة استفزازية باطلة. ومن ثم نقلت إلى معتقل هشارون في ظروف احتجاز سيئة جداً، حيث وضعت في زنزانة عزل قذرة جداً، من دون أكل وشرب، فضلاً عن تفتيشها عارية وإسماعها عبارات سيئة وتهديد برميها مع أولادها إلى غزة".
على الرغم هذا الألم المُكثف الذي تعيشه الأسيرات، فإن الأمل يلوح في الأفق؛ مع الإعلان عن هدنة بين المقاومة والاحتلال تتضمن تبادلاً للأسرى المدنيين تشمل نساء وأطفالاً فلسطينيين وإدخال كميات من المساعدات الإنسانية والوقود إلى غزة.
هكذا تبقى معادلة الحياة والموت داخل السجون مستمرة، وتحديداً في سجن بشمال فلسطين بجانب أحراش الكرمل في حيفا المحتلة؛ حيث تتواجد أسيرات، فيما يظل مشهد تحرير السجون وتبيضها، كما تصرّ المقاومة اليوم، هو المسيطر على أذهان الأسيرات ومخيلاتهن.
الأسيرة المحررة عائشة عودة، وهي من أوائل الأسيرات الفلسطينيات (اعتقلت عام 1969 وأفرج عنها بعد 10 سنوات) إثر صفقة تبادل الأسرى بين الجبهة الشعبية – القيادة العامة وبين الاحتلال بعد عملية "النورس"، تتذكر خصوصية العيش داخل السجون خلال الحرب حيث تواجدت في سجن الرملة خلال حرب أكتوبر عام 1973.
وتقول إن: "إمكانية حدوث صفقة هو شيء عظيم يعطي الأمل للأسيرات، خاصة أنه في الفترة الأخيرة لم يكن هناك أي أُفق أو أمل بالتحرير. فقد كان الأسرى والأسيرات يعيشون حالة من الأفق المسدود مقارنة بما كنا نعيشه نحن في سنوات السبعينيات، حيث كان هناك أفق سياسي دائم ومتجدد ومستمر، فخلال العشر سنوات التي كنت فيها بالسجن، حصل ما يقارب 10 عمليات فدائية نتج عنها المطالبة بصفقات تبادل. من عملية تيريز هلسا وريما طنوس وعلي طه والأطرش الذين قاموا بإنزال طائرة في مطار اللد عام 1972، ثم عملية عنتيبة وعملية معالوت وغيرها. حينها كنا نعيش دائماً مع أخبار صفقات التبادل. وهناك من كان يسخر إن حُكم عليه بالمؤبد لأنه على يقين أنه سيتحرر قريباً".
وتضيف: "ما بين يوم وآخر، كانت هناك عمليات للمقاومة هدفها تحريرنا، ولذلك كنا نعيش دائماً على الأمل، وعمرنا ما قطعنا الأمل. لكن المشكلة اليوم عند الأسرى والأسيرات أن الأوضاع صعبة. فالوضع السياسي لم يعد كما كان في الماضي، لكن عملية "طوفان الأقصى" أنعشت هذا الأمل مجدداً لدى الأسيرات والأسرى الذي يعيشون اليوم حالة انتظار، وهي بالمناسبة حالة صعبة جداً. فمن يتأمل بالتحرير ولا يصدر اسمه بالصفقة، يدخل في حالة صدمة، لكن في النهاية الصبر هو الحل الأمثل، فهذا قدرنا وخيارنا كفلسطينين".
انعكست آثار عملية "طوفان الأقصى" على أسيرات سجن الدامون. يومها تبدّلت كافة المعادلات التي تحكم المشهد العام في السجون. فقد وصلت أخبار عبور المقاومة إلى مستوطنات غلاف غزة إلى آذان الأسيرات. انتفضت قلوبهن وارتعشت أجسادهن. في تلك اللحظة بالذات توّلد أفق جديد للتحرير أمام أعينهن، وبات مشهد الحريّة أقرب من أي وقت مضى، وأخذن يُكّبرن بصوت عالٍ وموحد: "الله أكبر، الله أكبر".
عند الحديث عن الأسيرات تحضر صورة الأسيرة إسراء جعابيص، وهي واحدة من الأسيرات اللواتي يحتجن إلى رعاية صحية وعمليات جراحية طارئة لترميم جسدها المحروق. إذ إن معاناتها تتفاقم في ظل استمرار سياسة الإهمال الطبي المتعمد بحقها منذ لحظة اعتقالها عام 2015. ومن المتوقع أن تكون جعابيص من اللواتي ستكون أسمائهن ضمن قائمة المفرج عنهم.
وتكشف خالدة جرار، الأسيرة المحررة ورفيقة إسراء في سجن الدامون سابقاً، أن إسراء تنتظر دائماً أخبار صفقات التبادل قائلة إن: "الحديث عن إسراء ليس سهلاً، لأن إسراء شخصية فريدة، مزيج من القوة والصلابة الظاهرة، وأحياناً تفيض بالحنان والإنسانية. وهي عادةً ما تمر بمراحل تشعر فيها باليأس وتحديداً عندما يأتي أي خبر يتعلق بإمكانية حدوث صفقة تبادل. عندها تأتي مباشرة إلي وتقول لي: أمّ يافا، حللي! فأقول لها أن التحليل صعب وبحاجة إلى معطيات أكثر مما يأتينا ونستطيع الوصول إليه داخل السجن".
خصوصية إسراء لا تنحصر بصعوبة وضعها الصحي فقط،بل في كونها أُمّاً لولد وحيد هو "معتصم"، فخبر الصفقة جعل من أمنية إسراء بعناق ابنها أمنية قابلة للتحقيق قريباً. لا شك أن قلبها الآن يرتجف أملًا بالحريّة وبممارسة أمومتها بشكل طبيعي كباقي أُمهات العالم. وكانت إسراء قد عبرت مؤخراً عن وجعها الدائم (الجسدي والنفسي) من خلال كتابها الأول بعنوان "موجوعة". فعلت هذا على الرغم من أن الجزء الأكبر من أصابع يديها التهمته النيران.
أما الأسيرة المقدسية مرح باكير (24 عاماً). الفتاة المقدسية التي اعتقلها الاحتلال بلباسها المدرسيّ، وكانت في عمر 16 عاماً، أُصيبت حينها إصابة بليغة في يدها اليسرى لا تزال تُعاني من آثارها حتى اليوم. أصبحت مرح اليوم نفسها مسؤولة الأسيرات، وخط الدفاع الأول عنهن أمام إدارة سجن الدامون. منذ بدء الحرب وحتى اللحظة وهي معزولة في زنازين سجن الجلمة، في زنزانة ضيقة وعفنة، رمادية اللون تجلس فيها وحيدة، كما أن جسدها مخترق. إذ إن الزنزانة مليئة بكاميرات المراقبة من كافة الاتجاهات. لا يدخلها الضوء ولا تتوفر فيها أي مقومات للحياة الآدمية، ولم تتمكن من تغيير ملابسها منذ يوم نقلها، كما أن الأغطية خفيفة ومتسخة لا تقي من البرد.
تقول والدة مرح، سوسن المبيض إن: "الصفقة هي الأمل الوحيد لفك عزل مرح. كل دقيقة بستنى اسمع خبر فك أسر جميع الأسيرات، فما نعيشه منذ بداية الحرب صعب ومتعب جداً، وأنا أعد الأيام لأسمع أن مرح خلص رح ترجع بحضني وحضن أبوها وإخوتها، فمع بداية فصل الشتاء وبرودته، قلبي مثل النار عليها، ما معها ولا قطعة ملابس شتوية، ولو إنها بالدامون مع الأسيرات، كان كثير أهون من أن تكون لحالها كل هاي الفترة الطويلة".
وتشير المبيض إلى تخاذل المؤسسات الدولية في التعامل مع ما يحصل للأسيرات داخل السجون وتحديداً مؤسسة الصليب الأحمر: "من أول يوم عزل بنتي في 7 أكتوبر وأنا بحاول أتواصل مع جميع المؤسسات الدولية ليزوروا مرح ويطمنوا عليها، لكن للأسف ما في رد. دورهم في الأزمات والحروب ما قاموا فيه بشكل جدي، في تخاذل وتقاعس واضح وممنهج من قبلهم".
لا تزال الحرب جارية، ومعطياتها تختلف ما بين الحين والآخر، وعليه، يدرك الفلسطينيون والفلسطينيات اليوم بأن ما جرى من ارتفاع لأعداد الأسيرات والأسرى في فترة قياسية على امتداد الجغرافيا الاستعمارية، يعكس حقيقة مفادها أن الكل الفلسطيني (نساء، أطفال، كبار بالسن، صحفيات، طبيبات، أمهات الخ) هم رهائن للمستعمِر، ومن الممكن أن يتحوّل الجميع إلى أسرى في المعتقلات، فالجميع سواسية أمام آلة القهر والإبادة الاستعمارية.
Comentários